ما فتئ عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري يوالي إتحافنا بالتقديم لكتابات مغربية متنوعة في الأدب معربه وملحونه.

وها قد تجمعت بعد صدور الجزءين الأول والثاني من "كلمات تقديم" باقة متعددة الألوان والأنسام.

وأحمد الله أنني اخترت التسلسل التاريخي منذ البداية، وإلا لاحترت في الترتيب، وصعب علي التفضيل بين الشعر والنثر، وبين الغزل والصوفي، وبين الوطني والتاريخي، وبين القديم والحديث، وقبلها وبعد بين مؤلف وآخر.

ولكن هذا لم يمنع توقفي طويلا أمام ثلاثة تقديمات ترددت أولا في إدراجها ضمن سلسلة "كلمات تقديم" إذ خصها الأستاذ العميد بملف عنونه "مع شعراء الملحون في دواوينهم". غير أني لم ألبث أن أقنعته وحُسم الأمر بالإيجاب، احتراما لنهج التيسير الذي خططته في البداية، والذي يهدف لتسهيل وضع جميع التقديمات بين يدي القارئ الباحث في أجزاء متتالية بدل تشتيت جهده في البحث عن كل منها على حدة في الكتاب الذي تصدرته.

وترددت ثانيا في تحديد مكانها بين التقديمات، فقد وجدتها ذات طبيعة خاصة ومميزات فريدة. فالأمر يتعلق بالتقديم لدواوين موسوعة الملحون التي تصدر في سلسلة مازالت متواصلة بعد صدور مجلداتها الثلاثة التي يضم هذا الكتاب مقدماتها، ومعها ستتوالى التقديمات التي نأمل أن يضمها الجزء الرابع من "كلمات تقديم" إن شاء الله.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الموسوعة تصدر عن أكاديمية المملكة المغربية بناء على عمل لجنة موسعة يرأسها اختصاصي الملحون وباحثه الأكاديمي الأول، الدكتور عباس الجراري الذي لم يبخل بما لديه من نصوص جميعها طوال فترة الإعداد لأطروحته التي نشرها في كتاب "القصيدة" الذي لا يزال لحد الآن المرجع الطليعي في التراث الشعبي المغربي الملحون، رغم كل ما قُدم من رسائل وأطاريح كانت في أغلبها تحت إشرافه وبتوجيه منه، وما واكبها من أبحاث ومقالات في الموضوع نهلت من "القصيدة" الشيء الكثير. كما أنه لم يبخل بإضافة ما حصل عليه مؤخرا من مبادلاته مع معتنين بنفس الفن في بلاد مجاورة وأخرى شقيقة، ضُمت كلها إلى ما اجتمع لدا اللجنة حتى بلغ عدد القصائد ستة آلاف قصيدة لنحو خمسمائة شاعر.

واستقر الرأي أخيرا على أن تدرج في هذا السفر كقسم ثان تحت نفس العنوان "مع شعراء الملحون في دواوينهم" لما له من دلالة على موضوعها.

فالموسوعة أخرجت لصون تراث الملحون من الضياع وحفظ نصوصه، ولكن التقديم لكل جزء منها تضمن دراسة عن "الشيخ" الذي صُنع ديوانه، من حيث التعريف به وبشخصيته ووضعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتمثل في علاقته بالحاكم.

وقد استهل التقديم الأول بعرض مسهب لخطة عمل اللجنة وسرد أعضاءها، والهدف من إصدارها، والصعوبات والمشاكل التي تعترضها، والتعريف بالملحون وبيان موجز لتطوراته مخلل بنماذج شاهدة على ذلك وعلى تنوع موضوعاته واختلاف التناول بين أشياخه. ثم انتقل للتعريف ب "الشيخ عبد العزيز المغراوي" من حيث ولادته ونسبه وإقامته والقضايا المتعلقة بشعره وما تثيره لدارسي الملحون.

كما تابع في التقديم الثاني البحث في مصطلح الملحون قبل أن يتطرق لصاحب الديوان " الشيخ الجيلالي امتيرد" الذي عمَّر طويلا وكان "شيخ الأشياخ" وبحق "مترد امعمَّرْ بالتريد".

أما في التقديم الثالث والخاص ب "الشيخ محمد بن علي ولد ارزين" فتناول في البداية - كعادته - البحث في تدوين النتاج العربي وإبداعاته، وارتكازها على التداول الشفوي وما يتبعه من نشوء "السلاخين" و"الخياطين" و"الوضاعين" والاختلاف في ألفاظ نصوص بعض القصائد وكذا الخلاف حول نسبة بعضها. ثم انتهى للتعريف "بفاكية الشياخ" و"شريف المعاني" الشيخ بن علي مقدما نماذج من روائعه، وعلى رأسها "الشمعة" التي لا يزال الجيل الصاعد من المنشدين يترنم بها فيُنشي الجمهور.

* * * * *

وأعود إلى حيث كان يجب أن أبدأ. إلى القسم الأول المتكون من خمسة عشر تقديما.

واللافت للنظر فيه خيوط جمعت بين مادته وأصحابها، فنجد :

أولا : اتساعا للرقعة التي ينتمي لها المقدَّم لكتاباتهم، ما بين مراكش ووجدة والرباط وطنجة والشاون وفاس والعيون، لتتعداها إلى ليبيا وموريتانيا، ووصولا للسعودية من خلال التعرض لشخصية أحد أعلامها البارزين. وليس هذا بالغريب على الأستاذ الحبيب، فهو الداعي لمنهج الوحدة بدءاً من الإقليمية.

ثانيا : حرصا دائما على بث دراسة ولو موجزة مرتبطة بالكتاب الذي يقدم. وهكذا يعرض لتطور الشعر بشقيه المدرسي والشعبي مديحا وتصوفا، وضرورة الترجمة، وسيرورة الحلقة الشعبية، وضوابط الكتابة النقدية، وتدرج المقالة وبروز البحث والدراسة.

ثالثا : روحا وطنية تسعى لإنصاف أدب المغاربة مما لحقه من غبن وتهميش وتجاهل.

رابعا : تكريسا لجهود المرأة وإثباتا لحضور العنصر النسوي في المجالات العلمية المختلفة.

خامسا : إصرارا شديدا على بناء الحاضر في غير إغفال لتمثل الماضي بمواقفه ورجالاته.

سادسا : نفسا طويلا وقويا في المقاومة والنضال يلحم العرش بالشعب، في دفاع مستميت عن قضاياه، ووفاء قل نظيره لرموزه فيلقي الأضواء على الصحراء كما يشيد بالرثاء للأصدقاء.

سابعا : إثباتا لظاهرة الشباب الذين لم يثنهم تخصصاتهم العلمية البحتة عن تناول المسائل الدينية بلغة القرآن وغيرها سعيا لنشر خطاب ديني مبسط ومعتدل وتسهيل تقبله خاليا من الشوائب بعد أن كان  قد أشيع نفورهم منها وذاع.

* * * * *

وهكذا جاءت هذه التقديمات دراسة رائدة - على إيجازها لمواضيع شاسعة أثارها وأثراها ودفع لها أصحاب الكتابات، فلهم جزيل الشكر على ما أبدعوا مع الدعاء لجميعهم بالتوفيق والسداد ولزوجي بالصحة والرشاد.

إنه مجيب الدعاء.

حميدة الصائغ الجراري

الرباط في 27 أكتوبر 2009